عفوا نسيت شيئا ثالثا أساسيا بل وأكثر من أساسي في التعليق على كلام السباعي وهو التالي:
بما أن التيار السلفي الانحطاطي هو الذي انتصر في الماضي البعيد على التيار الفلسفي العقلاني الإنساني المدعو "بتيار الزنادقة" فان صاحبنا يعتقد بان نفس الشيء سيحصل اليوم. فهو يفتخر بتصفية الحلاج وابن المقفع وبشار بن برد وهزيمة ابن الراوندي والسهروردي والتوحيدي والمعري والمعتزلة والفلاسفة وكل المبدعين العرب والمسلمين. ولكنه واهم جدا إذ يفتخر ويفرح كل هذا الفرح بل ومستلب عقليا كبقية السلفيين. هذه المرة سينتصر "الزنادقة" عليكم، أو بالأحرى سوف تتحولون أنتم الى زنادقة! سوف تكونون زنادقة العصور الحديثة المارقين المحاربين من قبل الحضارة العالمية ككل والمعادين لكل قيم العصور الحديثة. هذه المرة لن يعيد التاريخ نفسه أو قل انه سيعيدها، ولكن بالمعكوس. ولذلك فلا مهرب لكم. انتم أعداء الإنسانية الذين تعرقلون تقدم الشعوب العربية والإسلامية. لقد أصبحتم عبئا علينا بل وعارا نخجل به ونعتذر عنه أمام الأمم.
محاكم التفتيش العربية، ضمن منظور علم الأصوليات المقارنة
لا يمكن ان نفهم حجم هذه المعركة بكل أبعادها إن لم نضعها ضمن منظور المقارنة الواسعة. بمعنى آخر فإننا بحاجة لوضع محاكم التفتيش العربية أو الإسلامية في مواجهة محاكم التفتيش المسيحية التي جرت في أوروبا لكي نرى القواسم المشتركة ونضيء الإشكالية بشكل أفضل. لإعداد هذا المقال اضطررت لاستشارة بعض المراجع. وقد أثلج صدري كلام الفيلسوف الفرنسي المشهور ميشيل سير عندما قال بأنه عندما اطلع على تاريخ الفلسفة الفرنسية منذ أربعة قرون وحتى اليوم لم يجد فيلسوفا واحدا تقريبا إلا وهو منبوذ أو مضطهد أو ملاحق أو محاصر أو حتى مهدد بالتصفية الجسدية3. وهذه هي ضريبة الفكر النقدي التي لا بد من دفعها بشكل أو بآخر. ففولتير عاش معظم حياته خارج حدود المملكة الفرنسية بسبب غضب لويس الخامس عشر واليسوعيين أي الإخوان المسيحيين عليه. وقد فكروا أكثر من مرة بإرسال كوماندوس إليه حيث يعيش على الحدود السويسرية لقتله. وفي إحدى المرات اضطر للاختفاء مدة ثلاثة أشهر عند البروتستانتيين "الزنادقة" أو المعتبرين كذلك من قبل الفاتيكان والكاثوليك الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا خلفهم..وأما جان جاك روسو فقصته معروفة. وقد عاش طيلة النصف الثاني من حياته تحت التهديد ملاحقا مضطهدا منبوذا. وأما كوندورسيه فقد انتحر في السجن. وقس على ذلك.. وعموما فان فلاسفة التنوير دفعوا الثمن بشكل او بآخر.
وقد اطلعت مؤخرا على ما يدعى بقائمة الكتب المحرمة التي كانت تنظمها محاكم التفتيش المسيحية وهالني الأمر. فقد اكتشفت أن معظم الكتب التي شكلت مجد فرنسا لاحقا وكذلك انكلترا وألمانيا كانت مدانة وموضوعة على لائحة المنع بحجة أنها كافرة زنديقة أو تشجع على الكفر والزندقة. وفوجئت انه حتى كتاب كانط "نقد العقل الخالص" لم ينج من هذا المصير. فقد وضع على اللائحة الشهيرة بعد موته بعشرين سنة. وقل الأمر ذاته عن كتب ديكارت وديدرو واوغست كونت وارنست رينان ومونتسكيو وبالطبع كتب فولتير وروسو. بل وحتى كتب الأب مالبرانش أدينت ومنعت على الرغم من انه مسيحي مؤمن ولكن بطريقة فلسفية ديكارتية عقلانية مستنيرة. وهذا الشيء كان ممنوعا آنذاك من قبل الفاتيكان ومحاكم التفتيش الظلامية المسيحية. وكذلك منعت كتب الأب لامنيس لأنه كان مسيحيا ليبراليا وصديقا لاوغست كونت. فكتابه: كلام رجل مؤمن، منع عام 1834. وقل الأمر ذاته عن كتابه: مناقشات نقدية وأفكار متنوعة عن الدين والفلسفة. فقد منع عام 1841. بل وحتى رواية مدام بوفاري الشهيرة لفلوبير أدينت من قبل الكنيسة ومنعت بتهمة "الإساءة للأخلاق العامة والأخلاق الدينية". ووضعت على قائمة الكتب المحرمة: أي التي يمنع على المسيحيين المؤمنين قراءتها منعا باتا. وكان ذلك بتاريخ 31 يناير 1857. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن ديوان أزهار الشر لبودلير. وقس على ذلك شيء كثير..هذه المؤلفات أصبحت الآن تشكل مجد الفكر والآداب الفرنسية. والفاتيكان بعد أن تطور الآن يخجل عما فعله آنذاك. انه غير فخور بإدانته لهذه الروائع ولكن بعد فوات الأوان. فهل سيخجل الأصوليون عندنا يوما ما من إدانتهم لمؤلفات المبدعين العرب؟ هل سيعتذرون لنجيب محفوظ الذي حاولوا قتله وليس فقط منع رائعته الشهيرة أولاد حارتنا؟ هل سينشر الأزهر عام 2050 بيان اعتذار؟
قبل أن أختم هذا المقال سوف أطرح السؤال الوجيه الرائع الذي طرحه ميشيل سير في كتابه المذكور آنفا: لماذا لم يُقتل أحد على مدار التاريخ باسم الفلسفة الفرنسية؟ لم نسمع أن أحدا قُتل باسم مونتيني أو باسكال أو مين دو بيران او بيرغسون ولا باسم الحقائق التي توصلوا إليها. هذا في حين ان الآلاف المؤلفة قتلوا باسم الأصولية المسيحية.
وبالطبع كان يمكن أن يضيف: ولا باسم فولتير أو جان جاك روسو أو ديكارت أو عشرات غيرهم. وكان يمكن أن يضيف: ولم يُقتل أحد باسم الفلسفة اليونانية ولا باسم الفلسفة العربية الإسلامية. على حد علمنا لم نسمع أن أحدا قُتل باسم الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد. ولا باسم سقراط أو أفلاطون وأرسطو. هذا في حين أن الآلاف المؤلفة أيضا قتلوا باسم ابن تيمية وبقية الأصوليين المسلمين.
الجواب الذي يقدمه ميشيل سير على هذا السؤال هو التالي: لان الفلاسفة عندما كتبوا ما كتبوه خاطروا بأنفسهم ووضعوا أشخاصهم على حد السكين أو الموت أو السجن أو النفي والطرد من البلاد. ولهذا السبب فإنهم لم يشاؤوا تحويل أتباعهم إلى أصوليين دمويين متعصبين بشكل أعمى. على العكس لقد جعلوا منهم أناسا أحرارا لا نعاجا مطيعة كما تفعل الإيديولوجيات الدينية. الفيلسوف دفع غاليا ثمن التفكير بحرية ولذلك فهو لا يريد أتباعا مغلقي العقول يتبعونه بشكل أعمى. انه يريد تلامذة أحرارا مثله لا أناسا دوغمائيين. ولذلك فان الفلسفة أو الفكر النقدي لم ينتج أبدا قتلة أو أشخاصا متعصبين على مدار التاريخ.4
الفلسفة تنتج عقولا متفتحة لا تواكلية ولا عبودية.
نستنتج من ذلك انه لا حرية بدون فلسفة ولا ديمقراطية بدون فلسفة ولا حضارة بدون فلسفة. ليس غريبا إذن أن تكون الحضارة العربية الإسلامية قد ماتت بموت الفلسفة وتكفير الفلاسفة!
عن موقع "الأوان"