الوحدة الموضوعية والسياق القرآني
السياق القرآني للآية بما قبلها وما بعدها وموضعها الخاصّ في السورة وهويّة السورة واسمها الموقوفة عليه، أمرٌ له دوره في فهم المراد، وربط الموضوع الواحد المتناثر بآياته في سياقات مختلفة في سور متعدّدة له دوره العظيم أيضاً، في ترسّم معالم الصورة كاملةً، لذلك نجد أنّنا أمام قوله: (كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ)(المدثر:32- 34) إذا فسّرنا أنّ الآية المقسَم بها هي كوكب "القمر" نفسه، فذلك لا ينسجم مع سياق ذهاب اللّيل وبزوغ النهار إذ الأوْلى أنْ يُقال (كلاّ والشمس) فهي سبب إدبار اللّيل وإسفار النّهار، بل لا موقع للحرف "كلاّ" للردع والإنكار إنْ كانت آيةَ ظاهرةٍ متكرّرة لا آيةَ تذكيرٍ مفردةٍ حاسمة. إلاّ إذا حرّكنا مفردة "القمر" إلى معانٍ أخرى، وربطنا ذلك باسم السورة "المدّثّر"، فرفع الدثار يُحاكي إدبار الليل، واستهلال الإنذار بالرسالة الخاتمة يحكي إسفار الصبح، والنبيّ الخاتم هو قمرُ العالَم نذيراً للبشر، فهذا محاولة، هذا اقتراب لفهم الآية، هذه استفادة، وليس هو تأويلها، بل لابدّ من مراجعة السياق وضبط معادلة إيقاع الكلمات، لنشهد بعدئذ أنّ تأويل هذه الآيات، سيكون مشهداً كونياً فريداً بآيةٍ رادعة تصيب القمر، يأتي ما قبْلَ ختْم تاريخ الإنسانيّة.
فالوحدة الموضوعيّة والسياق، نسيجٌ، أُصيب بآفة الخلط وعدم الدقّة لدى كثير من المفسّرين والباحثين، حين تُنزع الآية من سياقها ونسيجها كالتفسير المُبعثَر لآيات (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ)(الفجر:1، 2) ولمْ يأبه لاسم السورة ولا لموضوعها وسياقها ووحدتها وجزّأت تجزيئا وقطّعت أوصالها.
وحين يُعْمَد إلى آية (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة:106)، ينبرى للاستدلال بها على النسخ في الشريعة الخاتمة ما بين آية قرآنيّة وأختها أو بين قرآن وسنّة، بلا أدنى مراعاة لنسيج الآية وموضوعها الذي يتحدّث عن محطّات الملل السابقة من أهل الكتاب ومجيء الملّة الخاتمة بأحكامها وآياتها المهيمنة لتستبدل أو تستتبع ما لدى الشرائع السالفة، إذ الآية السابقة لها هي (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(البقرة:105)، (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ..)، وكذلك الاستدلال بآية (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(النحل:101) دعماً لنسخ الأحكام، بغضّ النظر عن السياق، وأنّ الآية مكّية وخطابها مع المشركين ولمّا تنزل أحكام الشريعة بعد إلاّ اللّمم. هذا لا يعني شطب "النسخ" من مفهومنا، لكن ينبغي تعديله على وفق الميزان القرآني لا وفْق ما قيل واشتُهر، وتجويد طلب دليله ومعناه من مظانّه، وقد بينّا ملمحاً منه فيما سبق.
بل وينبغي مراعاة كلّ مميّزات الآية اللّغوية ودلالات مفرداتها وضمائرها وأخذها بقوّةٍ بالتحليل والفرز والفحص، خُذ مثلاً (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ)(النساء:15)، (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ)(النساء:16)، بدأ بضمير جمع مؤنّث، أعقبه ضمير تثنية مذكّر، لماذا؟، هذا ما تاه فيه المفسّرون، شكر الله سعْيَ المخلصين منهم.
لقراءة المزيد راجع بحث "مفاتح القرآن والعقل"